اختلاف مفهوم التوحيد وقدرة الإله وتجاوزه بين الأديان السماوية الثلاثة
يعتبر مفهوم التوحيد من الركائز الأساسية في الأديان السماوية الثلاثة: اليهودية، المسيحية، والإسلام. ومع ذلك، فإن طبيعة التوحيد، وقدرة الإله، ومدى تجليه أو تجاوزه للعالم تختلف بين هذه الأديان بسبب الخلفيات الفلسفية واللاهوتية التي نشأت منها.
أولًا: التوحيد في اليهودية
تُعد اليهودية أقدم الديانات التوحيدية الإبراهيمية، حيث يُنظر إلى الله على أنه كائن واحد، أزلي، لا شريك له، ولا يمكن تمثيله أو تجسيده بأي شكل من الأشكال.
1. مفهوم التوحيد في اليهودية
- يُعرف التوحيد في اليهودية بمصطلح "التوحيد المطلق"، حيث لا يمكن لله أن يكون له شريك أو ابن أو تجسد مادي.
- تستند العقيدة اليهودية إلى الشهادة الأساسية في الديانة اليهودية: "اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا، الرب واحد" (التثنية 6:4).
- الإله في اليهودية هو "يهوه"، الكائن السرمدي غير المدرك، الذي لا يُرى ولا يُشبه أي شيء في الوجود.
2. قدرة الله في اليهودية
- الله في اليهودية قادر على كل شيء، لكنه يعمل وفق قوانينه الأخلاقية والتشريعية التي وضعها لشعبه المختار.
- الإله لديه علاقة خاصة مع بني إسرائيل، حيث أبرم معهم عهودًا وقدم لهم التوراة كدستور أخلاقي وتشريعي.
- يُنظر إلى الله على أنه إله شخصي، يتفاعل مع البشر، لكنه في نفس الوقت متعالٍ عن العالم المادي.
3. تجاوز الله في اليهودية
- الله في اليهودية متعالٍ عن الخلق، أي أنه غير محدود بالزمان والمكان، لكنه في الوقت نفسه يتدخل في شؤون العالم عبر أنبيائه.
- لا يوجد في العقيدة اليهودية مفهوم التجسد الإلهي، حيث يُنظر إلى فكرة ظهور الله في صورة إنسان على أنها مرفوضة تمامًا.
ثانيًا: التوحيد في المسيحية
تختلف المسيحية عن اليهودية والإسلام في مفهوم التوحيد، حيث تطورت العقيدة المسيحية لتشمل فكرة الثالوث الأقدس، الذي يرى الله في ثلاث شخصيات: الآب، الابن، والروح القدس.
1. مفهوم التوحيد في المسيحية
- التوحيد في المسيحية يُعرف باسم "التوحيد الثالوثي"، أي أن الله واحد في الجوهر لكنه متجسد في ثلاثة أقانيم.
- الإيمان بالمسيح كـ ابن الله لا يعني تعدد الآلهة، بل يُنظر إليه على أنه تجسد إلهي منبثق عن الجوهر الإلهي الواحد.
- تعتبر عقيدة الثالوث أساس الإيمان المسيحي، وتقوم على أن الله أظهر نفسه في العالم من خلال المسيح، بينما الروح القدس يعمل في الكنيسة والعالم.
2. قدرة الله في المسيحية
- الله في المسيحية كلي القدرة، لكنه أيضًا محبة مطلقة، ولهذا يتجسد في شخص المسيح ليُخلِّص البشرية من الخطيئة.
- المعجزات تُعد دليلاً على قدرة الله، خاصةً معجزات المسيح مثل شفاء المرضى وإقامة الموتى.
3. تجاوز الله في المسيحية
- الله في المسيحية يتجاوز العالم لكنه حاضر فيه من خلال الروح القدس الذي يعمل بين المؤمنين.
- الإله المسيحي ليس فقط متعاليًا عن العالم، بل أيضًا متجسدًا فيه عبر شخص المسيح، مما يجعل المسيحية أكثر اقترابًا من مفهوم التجسد الإلهي مقارنةً باليهودية والإسلام.
ثالثًا: التوحيد في الإسلام
الإسلام يؤكد على التوحيد المطلق ويعتبره جوهر العقيدة، حيث يُعرف الله في الإسلام باسم "الله"، وهو الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد.
1. مفهوم التوحيد في الإسلام
- التوحيد في الإسلام يُعرف باسم "توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات".
- تُعد سورة الإخلاص أحد أهم النصوص التي توضح التوحيد في الإسلام: "قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد".
- الله ليس له شريك أو ابن أو تجسد، وهو فوق كل المخلوقات.
2. قدرة الله في الإسلام
- الله في الإسلام قادر على كل شيء، فهو الذي خلق الكون ويدبره دون الحاجة إلى وسيط.
- يُعتقد أن كل شيء يحدث بإرادة الله، فهو المتصرف المطلق في الكون، ولا يحده شيء.
- المعجزات تُعتبر من دلائل قدرة الله، ولكنها لا تستلزم أن يتجسد الله نفسه في صورة بشرية.
3. تجاوز الله في الإسلام
- الله في الإسلام متعالٍ عن الخلق تمامًا، فلا يتجسد ولا يحل في أي مخلوق.
- يؤمن المسلمون بأن الله أقرب إلى عباده بعلمه وقدرته لكنه ليس حالًّا فيهم: "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" (سورة ق:16).
- في الإسلام، الله يُدرك لكنه لا يُرى في الدنيا، وسيكون المؤمنون قادرين على رؤيته في الآخرة.
يتضح أن مفهوم التوحيد يختلف بشكل كبير بين الديانات السماوية الثلاثة. ففي حين تؤمن اليهودية والإسلام بالتوحيد المطلق دون أي تجسيد أو شركاء، فإن المسيحية تقدم نموذجًا فريدًا من التوحيد من خلال مفهوم الثالوث وتجسد الله في المسيح. كما أن قدرة الله وتدخله في العالم تتفاوت من دين إلى آخر، حيث يظل في اليهودية متعاليًا لكنه قريب من بني إسرائيل، في المسيحية متجسدًا ليُخلِّص البشرية، وفي الإسلام متعالٍ تمامًا لكنه قريب من عباده بعلمه وقدرته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق