الاختلافات بين الكنائس المسيحية وأصلها التاريخي في المجامع الكنسية
المقدمة
المسيحية، رغم كونها ديانة واحدة، إلا أنها شهدت على مدار تاريخها انقسامات متعددة أدت إلى ظهور طوائف وكنائس مختلفة، لكل منها عقائدها وتقاليدها الخاصة. يعود أصل هذه الاختلافات إلى عدة عوامل، أهمها المجامع الكنسية التي انعقدت على مدار القرون الأولى لتحديد العقائد المسيحية والرد على البدع والانحرافات. في هذا المقال، سنستعرض أهم الانقسامات في تاريخ الكنيسة وأسبابها، مع التركيز على دور المجامع الكنسية في تشكيل هذه الاختلافات.
أولًا: الكنائس المسيحية الكبرى
تنقسم المسيحية اليوم إلى ثلاث طوائف رئيسية:
- الكنيسة الكاثوليكية (مقرها في الفاتيكان بقيادة البابا).
- الكنائس الأرثوذكسية (تضم عدة كنائس وطنية مثل الأرثوذكسية الشرقية والمشرقية).
- الكنائس البروتستانتية (مجموعة من الطوائف التي نشأت بعد الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر).
ثانيًا: المجامع الكنسية الكبرى وأثرها في الانقسامات
1- المجامع المسكونية الأولى وتحديد العقيدة
في القرون الأولى، ظهرت اختلافات لاهوتية جوهرية حول طبيعة المسيح وعلاقته بالله الآب، مما دفع الكنيسة لعقد مجامع مسكونية لحسم هذه القضايا.
أ. مجمع نيقية الأول (325م)
- دعا إليه الإمبراطور قسطنطين الكبير للرد على بدعة آريوس، الذي أنكر ألوهية المسيح.
- أقر المجمع بأن المسيح "مولود غير مخلوق، واحد مع الآب في الجوهر"، وتم صياغة قانون الإيمان النيقاوي.
- رفض الآريوسية، لكنها استمرت في بعض المناطق مما تسبب في صراعات لاحقة.
ب. مجمع القسطنطينية الأول (381م)
- أكد على ألوهية الروح القدس ضد البدعة المكدونية.
- اكتمل قانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني، الذي أصبح الأساس للإيمان المسيحي الأرثوذكسي والكاثوليكي.
ج. مجمع أفسس (431م)
- أدان بدعة نسطور، الذي فصل بين الطبيعتين الإلهية والإنسانية للمسيح بشكل مبالغ فيه.
- أقر أن العذراء مريم تُدعى "والدة الإله" (ثيؤطوكوس).
- أدى هذا إلى انفصال الكنائس التي رفضت المجمع، مثل الكنيسة الأشورية الشرقية.
د. مجمع خلقيدونية (451م) – الانقسام الأول الكبير
- أقر أن المسيح له طبيعتان: إلهية وإنسانية في شخص واحد.
- رفضته الكنائس المشرقية (الأرثوذكسية غير الخلقيدونية مثل القبطية، السريانية، والأرمنية)، مما أدى إلى انفصالها عن الكنيسة البيزنطية (الروم الأرثوذكس).
2- الانشقاق الكبير بين الشرق والغرب (1054م)
يُعرف هذا الانشقاق بـ "الانشقاق العظيم" (Great Schism) بين الكنيسة الكاثوليكية الغربية والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية.
أسباب الانشقاق:
-
الخلافات اللاهوتية:
- إدخال الكنيسة الكاثوليكية عبارة "والابن" (Filioque) إلى قانون الإيمان دون موافقة الكنيسة الشرقية.
- الكاثوليك يرون أن الروح القدس ينبثق من الآب والابن، بينما يصر الأرثوذكس على أنه ينبثق من الآب فقط.
-
الخلافات حول سلطة البابا:
- الكنيسة الغربية تؤمن بأن البابا له سلطة مطلقة على جميع المسيحيين.
- الكنائس الشرقية ترى أن البطريركيات متساوية في السلطة.
-
الخلافات الثقافية والسياسية:
- اختلافات في اللغة والطقوس بين اللاتين (الغرب) واليونان (الشرق).
- تدخل الإمبراطور البيزنطي في الشؤون الكنسية، مقابل استقلال البابوية في الغرب.
-
الأحداث المتوترة:
- تبادل الحرمانات بين بابا روما وبطريرك القسطنطينية عام 1054م.
- الحملات الصليبية، خاصة الحملة الرابعة (1204م)، التي دمرت القسطنطينية وأثارت العداء الدائم بين الطرفين.
3- الإصلاح البروتستانتي (القرن السادس عشر) – الانقسام الأكبر في الغرب
في القرن السادس عشر، ظهر الإصلاح البروتستانتي بقيادة مارتن لوثر في ألمانيا، وانتشر إلى سويسرا، إنجلترا، وفرنسا.
أسباب الإصلاح البروتستانتي:
-
الفساد في الكنيسة الكاثوليكية:
- بيع صكوك الغفران.
- فساد بعض البابوات والأساقفة.
-
الخلافات العقائدية:
- البروتستانت يؤمنون بأن الخلاص بالإيمان وحده (sola fide) وليس بالأعمال.
- رفضهم سلطة البابا والكنيسة التقليدية.
- اعتبار الكتاب المقدس المصدر الوحيد للإيمان (sola scriptura).
-
السياسات الأوروبية:
- دعم بعض الحكام للحركة البروتستانتية للحد من نفوذ الكنيسة الكاثوليكية.
نتائج الإصلاح البروتستانتي:
- ظهور العديد من الطوائف مثل اللوثرية، الكالفينية، والأنجليكانية.
- حروب دينية في أوروبا مثل حرب الثلاثين عامًا.
- انقسام المسيحية الغربية بشكل دائم بين الكاثوليك والبروتستانت.
الخاتمة
كانت المجامع الكنسية أداة رئيسية في تحديد العقيدة المسيحية، لكنها أيضًا ساهمت في الانقسامات الكبرى داخل المسيحية. من الاختلافات حول طبيعة المسيح في القرون الأولى، إلى الصراع بين روما والقسطنطينية، وصولًا إلى الإصلاح البروتستانتي، كل انقسام ترك بصمته على تاريخ الكنيسة. اليوم، رغم وجود هذه الانقسامات، هناك محاولات للحوار بين الكنائس لتعزيز الوحدة المسيحية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق