اللامعيارية (Anomie):
اللامعيارية (Anomie) هي مفهوم سوسيولوجي يرتبط بفقدان المعايير الاجتماعية أو ضعفها داخل المجتمع أو لدى الأفراد. يظهر هذا المفهوم بقوة عند حدوث تغيّرات اجتماعية أو اقتصادية عميقة، مثل الثورات، الحروب، الأزمات الاقتصادية، أو الحداثة السريعة. صاغ هذا المصطلح العالم الفرنسي إميل دوركايم (Émile Durkheim) في أواخر القرن التاسع عشر، ولا يزال محوريًا في تحليل السلوك المنحرف، والانتحار، وتفكك المجتمعات.
أولًا: تعريف اللامعيارية
اللامعيارية هي حالة من غياب أو ضعف القواعد والقيم الاجتماعية التي تنظم سلوك الأفراد، مما يؤدي إلى شعور بالاغتراب، الفوضى، وعدم اليقين الأخلاقي. تتجلى هذه الحالة عندما تفقد المؤسسات الاجتماعية كفاءتها في توجيه السلوك، أو عندما تتضارب القيم وتفقد قدرتها على الإلزام.
ثانيًا: اللامعيارية في فكر إميل دوركايم
1. اللامعيارية والانتحار
في كتابه "الانتحار" (Le Suicide)، أشار دوركايم إلى أن أحد أنماط الانتحار هو "الانتحار اللامعياري"، والذي يحدث عندما يمر الفرد بفقدان مفاجئ للإطار الأخلاقي أو القواعد التي تنظم حياته، كما يحدث في الأزمات الاقتصادية أو التفكك الأسري.
مثال:
في فترة الكساد الكبير في أمريكا (1929)، ارتفعت معدلات الانتحار بين من فقدوا وظائفهم ومكانتهم الاجتماعية، مما يعكس انهيار التوازن القيمي وفقدان الشعور بالانتماء.
2. اللامعيارية والتغير الاجتماعي
يرى دوركايم أن المجتمعات الصناعية السريعة النمو تتعرض للاضطراب نتيجة تغير البنى الاقتصادية والاجتماعية بشكل أسرع من قدرة النظام القيمي على التكيف، مما يؤدي إلى اللامعيارية.
ثالثًا: اللامعيارية عند روبرت ميرتون
طوّر العالم الأمريكي روبرت ك. ميرتون (Robert K. Merton) المفهوم في نظريته حول "اللامعيارية البنيوية"، حيث رأى أن اللامعيارية تنشأ عندما يوجد فجوة بين الأهداف الثقافية التي يروج لها المجتمع (مثل النجاح والثروة) والوسائل المشروعة لتحقيقها (مثل التعليم والعمل).
أنماط الاستجابة للامعيارية عند ميرتون:
- الامتثال (Conformity): الالتزام بالأهداف والوسائل الشرعية.
- الابتكار (Innovation): قبول الأهداف ولكن باستخدام وسائل غير شرعية (مثل السرقة).
- الطقوسية (Ritualism): الالتزام بالوسائل مع التخلي عن الأهداف.
- الانسحاب (Retreatism): رفض الأهداف والوسائل معًا (مثل المدمنين والمتشردين).
- التمرد (Rebellion): السعي لتغيير الأهداف والوسائل معًا (مثل الثوار).
مثال واقعي:
شاب نشأ في حي فقير، يرى أن المجتمع يحتفي بالثروة والنجاح لكنه لا يملك وسائل التعليم أو فرص العمل، فيلجأ للاتجار بالمخدرات كوسيلة "ابتكارية" لتحقيق المكانة والمال.
رابعًا: مظاهر اللامعيارية في الواقع المعاصر
1. في المجتمعات الانتقالية
المجتمعات التي تمر بتحولات سريعة من أنظمة تقليدية إلى حديثة تعاني من فجوة قيمية تؤدي إلى اللامعيارية. مثال ذلك، الدول التي شهدت ثورات أو اضطرابات مثل بعض الدول العربية بعد "الربيع العربي".
2. في الحراك الطبقي السريع
أحيانًا تؤدي التغيرات الاقتصادية السريعة إلى تغيّر في الطبقات الاجتماعية، مما يخلق صراعات قيمية بين الأجيال أو بين الطبقات.
مثال:
شباب ينحدر من بيئة ريفية تقليدية، يهاجر للمدينة، فيواجه منظومة قيم مختلفة تمامًا عن التي نشأ فيها، مما يخلق لديه تمزقًا داخليًا بين ما تعلّمه وما يراه مطلوبًا.
3. في ثقافة الاستهلاك والميديا
وسائل الإعلام تروج لنمط حياة مادي وفردي يصعب تحقيقه للجميع، مما يدفع بعض الأفراد للشعور بالإحباط والاغتراب.
مثال:
تأثر بعض الشباب بالمؤثرين على السوشيال ميديا الذين يروجون لأسلوب حياة فاخر، قد يدفعهم إلى الديون، أو البحث عن طرق غير شرعية لتحقيق تلك الصورة.
خامسًا: نتائج اللامعيارية
- ارتفاع معدلات الجريمة نتيجة ضعف الضوابط القيمية.
- زيادة السلوكيات المنحرفة كالإدمان، العنف، الانتحار.
- تفكك العلاقات الاجتماعية مثل ضعف روابط الأسرة والجماعة.
- تآكل الثقة بالمؤسسات كالمدرسة والدين والدولة.
- الإحساس بالاغتراب واللاجدوى خاصة لدى الشباب.
سادسًا: كيفية مواجهة اللامعيارية
- تعزيز دور المؤسسات التربوية والدينية والإعلامية في إعادة إنتاج القيم وضبط السلوك.
- تقليص الفجوة بين القيم المعلنة والواقع المعاش من خلال العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
- تمكين الشباب اقتصاديًا وثقافيًا للاندماج في المجتمع.
- تحديث القوانين بما يعكس التحولات القيمية دون فقدان الأسس الأخلاقية.
اللامعيارية ليست مجرد حالة طارئة، بل مؤشر على خلل في البنية الاجتماعية. وهي تحذرنا من أهمية الحفاظ على التوازن بين القيم والواقع، بين الطموحات والوسائل، وبين الحرية والضبط. إن فهم هذه الظاهرة لا يساعد فقط على تحليل السلوك الفردي، بل أيضًا على تشخيص أمراض المجتمعات والتنبؤ بمساراتها المستقبلية.