العلمانية في فكر الدكتور عبد الكريم سروش
يعتبر الدكتور عبد الكريم سروش من أبرز المفكرين الإيرانيين المعاصرين الذين أثروا في النقاشات الفكرية والدينية في العالم الإسلامي. تميزت أفكاره بتحليلها العميق للحدود بين الدين والدولة، وكيفية تأثير الدين في الحياة العامة من خلال مفهوم "العلمانية" التي تعتبر من أبرز القضايا التي تناولها في أعماله الفكرية.
1. تعريف العلمانية:
العلمانية، بمفهومها العام، تعني فصل الدين عن الدولة. ولكن في فكر الدكتور عبد الكريم سروش، لم يأخذ هذا المفهوم بشكل تقليدي أو ضيق. فهو ينظر إلى العلمانية على أنها ضرورة لتحرير الحياة السياسية والاجتماعية من القيود الدينية التي قد تقيد تطور الإنسان وحريته. ولكن، من جهة أخرى، سروش لا ينكر دور الدين في حياة الأفراد والمجتمعات، بل يدعو إلى فصل الدين عن السياسة مع احترام قيمه في الحياة الخاصة.
2. الرؤية الدينية:
يتمسك سروش بمفهوم "التعددية الدينية" ويؤمن بأن الدين يجب أن يكون متسامحًا تجاه الاختلافات الثقافية والآراء السياسية. وفقًا له، الدين ليس مشروعًا سياسيًا بقدر ما هو مشروع روحاني أخلاقي يتعلق بالإنسان ووجوده. سروش يرى أن الفكر الديني يجب أن يتفاعل مع المستجدات الحياتية، وأن الدولة الحديثة يجب أن تبقى محايدة تجاه الدين لتسمح بتعدد الآراء والأيديولوجيات.
3. فصل الدين عن السياسة:
فيما يتعلق بفصل الدين عن السياسة، يعترض سروش على استخدام الدين كأداة للسلطة السياسية. يرى أن ربط الدين بالسياسة يمكن أن يؤدي إلى تشويه جوهر الدين، حيث يصبح أداة للهيمنة والتسلط بدلاً من أن يكون رسالة روحية وأخلاقية. ووفقًا له، يجب على رجال الدين والمفكرين الدينيين أن يتركوا الساحة السياسية مفتوحة للتنوع الفكري.
4. العلمانية والتحديث:
يعتبر سروش أن العلمانية هي جزء من عملية التحديث التي يمر بها العالم الإسلامي. ففي سياق العصر الحديث، يصبح من الضروري التمييز بين الدين كمعتقد شخصي والدين كسلطة سياسية. وبذلك يمكن للعلمانية أن تساهم في تحرر الفرد والجماعة من القيود التي فرضتها السلطة الدينية التقليدية.
5. المواقف المختلفة في الفكر الإسلامي:
عند الحديث عن العلمانية، يتناول سروش بعض المواقف المختلفة داخل الفكر الإسلامي. فهو يدعو إلى تفهم العلمانية في سياق مجتمعات مسلمة متنوعة ومتعددة، حيث يرى أن العلمانية ليست بالضرورة تعني الإلحاد أو التخلي عن القيم الدينية، بل هي أكثر من مجرد فصل بين المؤسسات الدينية والسياسية. ويؤمن أن المجتمعات الإسلامية يمكن أن تحترم الدين وتعيش في تناغم مع قيمه دون الحاجة إلى تسلط الدولة الدينية.
6. الديمقراطية والعلمانية:
سروش يربط العلمانية بالديمقراطية باعتبار أن فصل الدين عن السياسة يعزز من المساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم الدينية أو أيديولوجياتهم. الديمقراطية، في رأيه، لا يمكن أن تتحقق في ظل هيمنة دينية على الدولة، بل يجب أن تكون موجهة نحو الحفاظ على حقوق الإنسان والحريات الفردية في إطار نظام سياسي يضمن المشاركة والاختيار الحر.
7. العلمانية كضرورة لتطور المجتمعات الإسلامية:
في النهاية، يمكن القول إن عبد الكريم سروش يرى أن العلمانية هي ضرورة لتطور المجتمعات الإسلامية نحو مجتمع أكثر حداثة، يتسم بالتعددية ويعترف بحقوق الأفراد في التعبير عن أنفسهم بعيدًا عن أي هيمنة دينية أو سياسية. لكن، في الوقت نفسه، لا يعني ذلك تجاهل الدين أو التقليل من أهميته في حياة الأفراد. بل يرى أن الدين يجب أن يظل جزءًا من الهوية الثقافية والتاريخية للأفراد، ولكنه لا ينبغي أن يتحكم في حياتهم السياسية.
8. الختام
نظرًا لهذه الرؤية المركبة والمتوازنة، يمكن اعتبار عبد الكريم سروش من المفكرين الذين قدموا مساهمة كبيرة في إحداث تحول في الفكر الإسلامي الحديث، من خلال تقديم فهم معاصر ومرن للعلمانية. وبينما يعترف بأهمية الدين في الحياة الفردية والجماعية، فإنه يصر على ضرورة فصله عن السياسة لتمكين المجتمعات الإسلامية من مواكبة التحولات العالمية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق